عمل الرئيس السادس عشر، ناظم القدسي، جاهداً على إنقاذ سوريا من الوقوع في براثن حكم العسكر، فكان الثمن السجن والإقامة الجبرية واعتزال الحياة السياسية، كما كان حارساً أميناً لدستور عام 1950 الذي قلّص من صلاحيات الرئيس وزاد من صلاحيات البرلمان وعزّز سطلة القضاء واعتبر من أفضل الدساتير العصرية، وضمن القدسي خلال فترة رئاسته حرية الصحافة والرأي وسمح بالتظاهر والاجتماعات التي قيّدها العسكر. ناظم القدسي
وكان القدسي من أشدّ المعارضين للوحدة مع مصر، بينما سعى بنفس الوقت إلى إقامة وحدة فدرالية مع العراق، بحكومتين مستقلتين تجتمعان، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وكان ميالاً للولايات المتحدة وبريطانيا غير راغب بالتقارب مع روسيا.
اعتمد أوراقه الرئيس الأمريكي، فرانكلين روزفلت، في آذار 1945، كأول سفير لسوريا في واشنطن، بعد تعيينه من الرئيس شكري القوتلي، وهناك اشترى مبنى للسفارة كانت تمتلكه عائلة الرئيس الأمريكي وليام تافت، استحوذت مصر على المبنى بعد الانفصال، وتمت استعادته عام 1974 ليعود مقرّاً للسفارة السورية.
ولد الرئيس ناظم القدسي في حلب عام 1906، تلقّى تعليمه هناك، ثم في دمشق وبيروت، قبل أن ينال شهادة الدكتوراه في القانون الدولي من جنيف عام 1929.
التحق القدسي بالكتلة الوطنية عام 1935، التي لعبت دوراً كبيراً في مقارعة الاحتلال الفرنسي، سياسياً وليس عسكرياً، وكان من أبرز مؤسسيها هاشم الأتاسي وسعد الله الجابري وإبراهيم هنانو وفارس الخوري، ثم ترك الكتلة عام 1939 بعد انضمام لواء إسكندرون إلى تركيا، وفي عام 1947 شكل مع رشدي كيخيا ومعروب الدواليبي حزب الشعب المعارض للحزب الوطني “الكتلة الوطنية”، والمؤيد للوحدة مع العراق وتطوير العلاقات مع الغرب مع تكريس العمل الديمقراطي، وخلال تواجده في حلب فاز بالانتخابات البرلمانية (1943، 1947، 1949 و1962).
وفي عام 1949 رفض القدسي طلب الانقلابي حسني الزعيم بتشكيل حكومة، فأغلق الأخير مكاتب حزب الشعب وأودع القدسي السجن ثم فرض عليه الإقامة الجبرية، فما كان من القدسي إلا مساندة سامي الحناوي في انقلابه على الزعيم الذي كان يهدّد بقيام حرب مع العراق والأردن، لاتهامهما بالتآمر مع الغرب.
ترأس القدسي اللجنة السياسية لإدارة البلاد ريثما تعود الشرعية، وساهم في صياغة دستور عام 1950، وتولى وزارة الخارجية في حكومة هاشم الأتاسي، وبدأ بالمباحثات مع الأمير عبد الإله لقيام وحدة فدرالية مع العراق، التي وقف ضدها العسكر وبشكل مباشر.
بتكليف من الرئيس الأتاسي، شكّل القدسي أول حكومة له عام 1949، استقالت بعد خمسة أيام لوقوف العسكر ضدها، متعللين بعدم وجود أي ضابط، مما اضطر القدسي لتشكيل حكومة ثانية، وعين فوزي سلو وزيراً للدفاع، ونتيجة لتدخلات العسكر استقال القدسي بعد مضي عشرة أشهر فقط، قبل أن يستولي أديب الشيشكلي على السلطة، ويعتقل كل قيادات حزب الشعب بتهمة التآمر مع الغرب، وبقي القدسي في السجن حتى كانون الثاني 1952، وتحت الإقامة الجبرية حتى شباط 1954. بعد الإطاحة بالشيشكلي أصبح عضواً في البرلمان وناطقاً رسمياً له، وخلال الوحدة اعتزل العمل السياسي وبقي في حلب بعيداً عن الأنظار.
وعقب الانفصال الذي قاده عبد الكريم النحلاوي، انتخبه البرلمان رئيساً لسوريا، من 14 ديسمبر 1961 ولغاية 8 آذار 1963، حيث انقلاب حزب البعث، ليكون القدسي آخر الرؤساء الشرعيين لسوريا.
تميّزت فترة رئاسته باستعادة العلاقات مع بعض الدول العربية والغربية التي تمت مقاطعتها خلال الوحدة، وعمل على برنامج اقتصادي وزراعي متكامل بعد الآثار التي خلفها قانون التأميم الذي سنّه عبد الناصر، كما رفض أي تعديلات للدستور تزيد من صلاحيات رئيس الدولة، وعمل جاهداً على إبعاد العسكر عن التدخل في السياسية وفرض إملاءاتهم، ليأتي انقلاب حزب البعث الذي أنهى الحياة السياسية في سوريا إلى يومنا هذا. عندها وبعد خروجه من السجن، غادر القدسي إلى عمان، حيث توفي هناك عام 1998، تاركاً إرثاً سياسياً عطراً ونضالاً لتكريس الديمقراطية وكفل الحريات في بلد لم يعرف الديمقراطية منذ رحيله.
وجّهت جريدة الرأي العام اتهاماً للقدسي عندما كان رئيساً لمجلس النواب عام 1954، بأنّه أمر بفتح شارع بالقرب من أرض تعود مليكتها له، عندها لم يجلس على كرسي الرئاسة، وقال: “أيها الزملاء لقد وجهت لي جريدة الرأي العام تهمة مفادها أنني أمرت بفتح شارع يمر قرب قطعة أرض لي بهدف رفع سعرها، وأنا منذ هذه اللحظة أضع نفسي أمامكم موضع المتهم، وأطلب تشكيل لجنة برلمانية ترافقها لجنة فنية تخصصية تذهب إلى موقع الأرض وتعاين على الطبيعة صحة الاتهام. فإن ثبتت التهمة، أطلب منكم رفع الحصانة عني وتقديمي إلى المحاكمة”.
وعليه تم تشكيل لجنة أثبتت بطلان التهمة، عندها قال: “إنني أسقط حقّي في إقامة دعوى على الصحافي القدير الأستاذ أحمد عسة، رئيس تحرير جريدة الرأي العام، احتراماً مني لحرية الصحافة، وتقديراً لاهتمامه بالمصلحة العامة”. ناظم القدسي