أثارت وفاة الكاتبة السورية رغده حسن، الكثير من الهموم المتعلقة بأوضاع الكتّاب والمثقفين السوريين في المنفى. فقد ذكر أحد أصدقائها المطّلعين على أوضاعها الاقتصادية، على صفحته في فيسبوك، بأنّ (معظم أصدقاء الراحلة كانوا على علم تام بظروفها النفسيّة والمادية، وعلى الرغم من وجود مؤسسات إعلامية ومنابر للكتابة المدفوعة، لكن تم تجاهل رغدة حسن وآخرين/ات وحصر كعكة الاستفادة بشلل ضيقة، وأضاف: “لا تجد في منزلها لقمة خبز في الوقت الذي كوّن فيها سفهاء المعارضة ثروات لا حدود لها”. المثقف
يأخذنا هذا الوجع الخاص بأوضاع الكتّاب، إلى موضوعين أساسيين، أودّ التوقف عندهما:
أولاً: نظرة المؤسسات السياسية للفعل الثقافي
في أحد تجمعات المعارضة الكثيرة، والتي دخلت في واحدة منها فقط، كونها تهتم بالجانب النسوي، حيث تواجدت في الاجتماع الأول الذي عُقد بوجود عدد هائل من النساء السوريات، من مختلف الاهتمامات: سياسية، حقوقية، فنية… والذي أتاح لي، للمرة الأولى في حياتي، فرصة اللقاء مع هذا العدد من النسوة السوريات.
حين بُدء بترتيب العمل، تم توزيع السيدات في عدة هيئات، وفق اختصاصهن: محاميات، سياسيات، ممثلات، كاتبات… وجدتني في هيئة فنية، تضم ممثلات ومخرجات وشاعرات، وأنا روائية.. وأحسست أنّ هناك خلطاً بين الدور الثقافي والدور الفني، الكاتب غير الفنان، هكذا رأيت، وطالبت مع مجموعة من الصديقات الكاتبات، فصل عملنا عن ذلك الذي يضم المجموعة الفنية، وهكذا أنشأنا، نحن الكاتبات هيئتنا الثقافية.
مع أنّ الموضوع لم يستمر، ولست هنا بقصد انتقاد أداء هذا التجمع، المُدار، كأغلب تجمعات المعارضة، من عقليات تقليدية لا ترى في الثقافة والأدب أكثر من كونها رصف كلمات لا قيمة له، سوى مخاطبة المشاعر والعواطف، والذي انتهى به المطاف حالياً، وهو تجمع نسوي، ليترأسه رجل!
كما أنّني اقترحت تشكيل نواة للكتابة الإبداعيّة، للاهتمام بطاقات النساء اللواتي لديهن ميولاً كتابية، ولا يجدن من يعتني بهن، لكن مشروعي ذلك، قوبل غالباً بالموقف ذاته: ما أهمية الأدب في زمن الحرب؟!
لذلك، حتى اليوم، فإنّ أغلب المشتغلين في الحقل الثقافي في مؤسسات المعارضة، هم من ذوي خلفيات سياسية، علاقتهم بالكتابة هي مجرد هواية، تنظر إلى الأدب على أنّه المفردات اللطيفة، أو الرصف المعقد لكلمات غامضة، لا يفهمها حتى الذين يستعملونها.
وهكذا تحولت أغلب هذه الأماكن، أي الأدوار الإبداعية، إلى أبواب للرزق، وصار هناك تشويه إضافي، لما كانت تقوم به الأنظمة من قبل، لدور المثقف، وأهمية النصّ، لتأتي النتاجات الكتابية، خالية من التجديد أو التحديث، لغة قديمة ومتكلسة، لا تختلف أبداً عن اللغة الإنشائية المنفصلة عن الحراك الثوري، بالمعنى الفكري لا السياسي، الذي يحدث في العالم، تماماً، كما كانت اتحادات الكتاب وفروعها في المحافظات السورية، مرتبطة بأيديولوجية سياسية محافظة.
ففي الوقت الذي ينتشر فيه كتاب (العاقل.. تاريخ مختصر للجنس البشري)، ليوفال نوح هراري، في عدة لغات، أوصى بقراءته كل من نتالي بورتمان ومارك زكربيرج وباراك أوباما وكرِس أفانز وآخرين غيرهم، وكما قيل عن كتاب الأمير، نيكولو مكيافيلي، بأنّ «نابليون» و«هتلر» كانا يتَّخذانه مرجعًا لسياساتهم، يجد أحدنا، نحن المهجوسين بتغيير العالم عبر الكلمة، صعوبة في شرح دور الكتابة والفكر، في إحداث الانقلابات الذهنية. وتقديم أمثلة عن فرويد وديستويفسكي وكافكا، يعتبر نوعاً من السذاجة من قبلنا، أمام أنظمة شمولية، سياسياً واجتماعياً، ترى الكتابة كلمات لا أهمية لها.
ثانياً: الوضع الاقتصادي للكتّاب العرب
أما الموضوع الثاني المتشعب من الأول، فهو المردود المادي للكاتب، في العالم العربي.
تحت عنوان “التفرغ ضرورة قصوى للمبدعين العرب”، في مقابلة أجرتها صحيفة الخليج مع الروائية هدى بركات، الحاصلة على جائزة البوكر للرواية العربية، وقبلها، على جائزة سلطان العويس، تقول السيدة بركات: “أهم التحديات هو الوقت، فأنا مضطرة كي أعمل، لست ثرية بما فيه الكفاية حتى أتفرّغ للأدب، قراءة وكتابة، وهذا يحزنني لأنّي بدأت أشعر أنّ الوقت يمر بسرعة، ولدي مشاريع كثيرة في رأسي، لكن العمل وهموم العيش لا تعطيني الوقت الذي أتمناه وأرغب به، والوقت هو الحرية، البذخ في الحياة هو امتلاك الوقت من يملكه.. يملك كل شيء، وأتمنى أن تلتفت المؤسسات العربية أكثر من ذلك إلى مشاريع تفرغ ومشاريع استضافات أدبية، لقد كتبت رواياتي الأخيرة بمنح كتابية أجنبية وأنا أكتب بالعربية، وهذا يحزّ في نفسي”. المثقف
كذلك، تكتب الشاعرة رشا عمران على صفحتها في فيسبوك: (كتار بيبعتولي أنو بدنا مقالات ونصوص منك للنشر، بيكون عندهن مواقع بدهن مواد إلها، وعموماً ما في مواقع ثقافية أو سياسية بتنفتح إلا ممولة. طيب أنا امرأة ما عندي أي مصدر دخل على الإطلاق غير كتابتي. اذا وقفت كتابة ما بيعود فيني أدفع أجار بيتي وما عندي حدا يصرف علي.. صاحب الموقع يلي بيطلب مني نص أو مقال بدون ما يجيب سيرة الأجر ليش متوقع أنو الكتابة سقط متاع ومو مستاهلة يندفعلها مصاري.. أو أنو واحدنا عندو صندوق بيشيل منو مقالات وبيوزع عالمحتاجين يعبوا مواقعهن مشان يضلوا ياخدو تمويل.. يا جماعة الكتابة مهنة.. متل أي مهنة أخرى.. والكاتب محتاج مصاري ليعيش متل أي كائن بشري آخر).
من هذين المثالين، يظهر لنا حجم معاناة الكتاب العرب، في الوقت الكبير الذي يقضونه من أجل الكتابة، مقابل مردود ضئيل، حين يحالفهم الحظ، ودون مقابل، حين يكون الوضع طبيعياً، حيث الاستثناء أن يعيش الكاتب من كتابته، والأصل والثابت، أنّ الكتابة في ثقافتنا، هي مهنة من لامهنة له.
من هنا يأتي التحدّي الكبير، إذا كانت الأنظمة حديثة، فإنّ عليها أولاً أن تعي أهمية الكتابة، وثانياً، عليها أن تدعم مبدعيها وتساهم في اكتشاف الطاقات الخبيئة. هذه هي الديمقراطية الحقة، والنظرة الجديدة المغايرة عن نظرة السلطات البائدة، الاستبدادية، الأبوية، وهذه على الأغلب أحلام صعبة التحقق