لاشك أنّ الأحداث الكثيرة التي مرّ بها الشعب السوري، والتي فرضت عليه واقعاً مأساوياً على جميع الأصعدة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، في ظلّ نظام مستبد ومجرم ومعارضة بائسة فاسدة مرتهنة، كانت بعيدة جداً عن تمثيل مصالح السوريين، بقدر تمثيلها للمصالح الخارجية.
ولعلّ أكثر ما حققه الشعب السوري طيلة السنوات الماضية في مسيرة كفاحه، هو إجبار المجتمع الدولي على الاتفاق على إصدار القرار 2254، والذي يلبي الحدّ الأدنى من تطلعات الشعب السوري وسعيه لنيل حقوقه، في العيش بحرية وكرامة وعدالة. ولم تكن المسارات الجانبية الأخرى، التي شكّلت لاحقاً بعد استصدار القرار 2254، كأستانا وسوتشي وملحقاتها وتفرعاتها ولجانها، إلا أدوات لتفريغ محتويات القرار الدولي من فاعليته وحرف مسار جنيف عن هدفه والالتفاف عليه وعلى مبادئه.
وفي ظلّ هذه الظروف المحيطة، يضاف لما سبق دخول استحقاق دستوري سوري، وهو الانتخابات الرئاسية وسط كارثة اقتصادية يعيشها السوريون، وبينما يتفرّغ النظام السوري للاهتمام بإعادة إنتاج مسرحية هزليّة، التي تتكرر من خمسين عاماً، تحت مسمّى الانتخابات الرئاسية، وتتفرّغ المعارضة السورية لمزيد من الارتهان لتنفيذ أجندات دوليّة وخوض حروب هنا وهناك ومسيرة ارتزاقية لا تقلّ خطورة بتاتاً عما يقوم به النظام من ارتهان مقابل ومنافس لهذه المعارضة في البيع والتفريط بكل ما هو وطني، من اقتصاد ومؤسسات وغيره.
ومما لا شك فيه، يعتمد النظام السوري على حليفه القوي لإعادة إنتاجه، فتلك الجولات التي قام بها السيد وزير الخارجية الروسية لدول الخليج وللجامعة العربية، محاولاً حثّ هذه الأطراف الإقليمية على تقديم مساعدات باسم الشعب السوري لتخفيف الضغط والاحتقان في الشارع السوري، مخافة مفاجئات غير محسوبة تودي بتلك الورقة التي تعدّها روسيا للمساومة في الوقت القريب.
تلك الردود الدبلوماسية التي تلقّاها السيد لافروف من مسؤولي تلك الأطراف، أنّه لا سبيل لتقديم أي شكل من المساعدات والمساهمة في إعادة النظام السوري لصف الجامعة العربية، والمشاركة في مفاوضات لإعادة الإعمار إلا بشروط، أهمها تقدّم فعّال وواضح على مسار الحل السياسي وعلى مسار المفاوضات التي تجري من حين لآخر، وأبرزها ما تسمى اللجنة الدستورية، التي شكّلت وفق أجندات كارثية على الشعب السوري كون أسباب وجودها معدومة، وهي فقط مشروع لإطالة أمد الأزمة، ولم تكن مشكلة السوريين يوماً مع الدستور، بقدر ما كانت مشكلتهم مع مَن رهن الدستور والشعب السوري والدولة السورية ومؤسساتها في سبيل البقاء على كرسي الحكم الذي يعوم على بحر من دماء السوريين.
وستعمد السياسة الروسية لإظهار أنّ تقدماً ملموساً سيتحقق في اجتماعات اللجنه الدستورية القادمة، وهذا ما ستوافق عليه المعارضة السورية المتمثلة باللجنة الدستورية المنبثقة عن الائتلاف السوري المعارض، البعيد كل البعد عن أهداف وتطلعات الشعب السوري، وستكون الجلسة القادمة مصحوبة بشحن إعلامي موجّه يظهر من خلال جلسة تجمع وفدي النظام والمعارضة، والتقاط صور تظهر أنّ جدية المفاوضات بالرغم من أنّها لن تكون إلا سيناريو متواصل من التسويف وإضاعة الوقت على حساب آلام الشعب السوري.
إنّ ما تقدم عليه المعارضة السورية من خلال استهانتها بحقوق السوريين، ومحاولة التماهي مع النظام لتمييع القرار ٢٢٥٤، يعتبر جريمة بحق الشعب السوري، بشقّيه، الموالي والمعارض، إن جاز التعبير، وسيكون اجتماع اللجنة الدستورية بمثابة جواز مرور للمساعدات التي ينتظر الجانب الروسي من الداعمين العرب تقديمها كجرعات إنعاش للنظام السوري تساعده في كسب الوقت لبضعة شهور.
يستطيع اللاعب الروسي فرض أوراق تفاوضيّة أقوى في وجه القرار الأمريكي، صاحب الكلمة الفصل في الملف السوري، بحيث يتم التفاوض وتقديم ورقة روسية تشمل عدة ملفات، من بينها ورقة الإبقاء على النظام السوري أو المساومة عليه، وتقديم هذه الجرعات سيجعل الورقة الروسيّة أقوى، ويرتفع الثمن المطلوب الذي يجب أن يقدّم للروسي حتى يتم التخلّي عن رأس النظام. ومن هنا تكمن خطورة اللجنة الدستورية واجتماعها القادم، وذلك التفريط الذي يقوم به أقطاب المعارضة في الائتلاف، في سبيل الحفاظ على مكاسبهم الشخصيّة الضيقة، بصورة مشابهة لما تقوم به السلطة المستبدة في سوريا.
لم تحدّد حتى الآن اجتماعات اللجنة الدستورية، وإن كدت أجزم أنّها خلال الأيام القليلة القادمة، وإن تمت بالشكل والمضمون الذي يدار لإعطاء انطباع أنّها تمثّل تقدماً سياسياً ملموساً على صعيد حلّ المسألة السورية، فهذا سيكون كارثياً وامتداداً لرحلة طويلة من التسويف والتأجيل والتمييع لتطبيق القرار ٢٢٥٤، فلا سبيل للخروج من المأزق السوري لجميع الأطراف إلا بتطبيق هذا القرار، وكل ما تقوم به المعارضة السورية والنظام السوري هو تعطيل وتأخير هذا الحلّ من أجل الحفاظ على وجودهم، وهذا أمر يلقى دعماً من أطراف إقليمية ودولية ما زالت تستثمر في إدارة الصراع السوري، وتفاوض هنا وهناك، تحقيقاً لمصالحها ومكاسبها على حساب الشعب السوري.
لا سبيل أمام هذا الشعب إلا بتقديم نموذج نخبوي وطني بعيد عن الطرفين، يكون قادراً على إنشاء مؤسسات وطنية تعنى بالمصالح السورية، أولاً، وتتماشى مع المصالح والقوى الدولية بما يخدم القضية السورية، ومدّ اليد من السوريين لجميع الأصدقاء والأشقاء من أجل دعم هذا التوجّه والمساعدة في صياغته وفق أسس الاحترام والمصالح المشتركة، من أجل الخلاص من هذا الكابوس الجاثم على صدور السوريين من عشر سنوات، والذي دمر البلد وبنيته الاقتصادية والاجتماعية، ورهن قراره الوطني بسبب إجرام السلطة وارتهان المعارضة.