بمستوى تضخم مرتفع، وبأجور لم تشهد زيادة هامة خلال السنوات الأخيرة، وفي ظل نمو إقتصادي ضعيف لم يتجاوز الـ1 بالمائة وتراجع كبير للإنتاجية، فإن المستهلك التونسي يجد نفسه في مأزق كبير وأمام قدرة شرائية زادت إهتراء على إهتراء. فلا يخفى على أي محلل إجتماعي أو إقتصادي ما يعانيه المستهلك التونسي من مصاعب مادية يعكسه التراجع الكبير لحجم الطبقة الوسطى في تونس و الذي بلغ حسب آخر التقديرات 55 بالمائة من المجتمع التونسي، و تجاوز نسبة الفقر في تونس مستوى 15 بالمائة. وهذه الوضعية تزيد تعميقا للأزمة الحالية في إطار مناخ سياسي هش، وضبابية أو جمود في عديد الوزارات، وتعطل كبير لعديد المصالح الإدارية وخاصة المعنية بمراقبة السوق ومسالك التوزيع.
ويبقى دائما الملجأ الأخير للمستهلك التونسي هو “السلف” والقروض البنكية من أجل الإستجابة لأبسط حاجياته الأساسية. إلا أن واقع الحال يؤكد أن هذا الملجأ قد أوصد أبوابه أمام المستهلك التونسي.
تراجع حاد في قائم القروض البنكية لفائدة الأسر التونسية
حسب آخر الأرقام المتعلقة بالقروض المسلمة من طرف البنوك التونسية للأسر، فإننا نسجل تراجعا كبيرا سنأتي على أسبابه تباعا.
بلغ قائم القروض المسلمة من طرف البنوك التونسية لفائدة الأسر التونسية إلى حدود شهر سبتمبر 2019، ما قدره 23.9 مليار دينار، وتتوزع هذه القروض بين 11.1 مليار دينار لفائدة شراء مسكن جديد، 9.2 مليار دينار قروض لتحسين المسكن، 3.2 مليار دينار كقروض إستهلاكية قصيرة المدى، وتجدر الإشارة إلى أن قائم القروض المسلمة من طرف البنوك للأسر التونسية سجل زيادة بـ2154 مليون دينار سنة 2017 بنمو يقدر بـ10.7 بالمائة، في حين نما بـ5.2 بالمائة فقط سنة 2018 مسجلا زيادة بـ1150 مليون دينار. وإلى حدود شهر سبتمبر 2019، سجل قائم القروض للأسر التونسية زيادة بـ34 مليون دينار فقط، وهو رقم ضعيف جدا، لا يتجاوز الـ1 بالمائة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2018. ويعود هذا التراجع الكبير لعدة أسباب لعل أهمها:
– إرتفاع كلفة الإقتراض من البنوك تحت تأثير الترفيع المستمر وفي 3 مناسبات متتالية في نسبة الفائدة المديرية من طرف البنك المركزي التونسي، وذلك سعيا منه للتحكم في التضخم الذي تجاوز نسبة الـ7بالمائة، قبل أن يشهد تراجعا طفيفا خلال الأشهر الماضية. و تتراوح نسب الفائدة الموظفة على مختلف القروض لدى البنوك التونسية بين 9 و 13 بالمائة.عدم قدرة السر التونسية، خاصة من الموظفين ومن الطبقة الوسطى على الإقتراض، نظرا لبلوغها المستويات القصوى للقدرة على ذلك، السياسات التضييقية للبنوك التونسية على مجال القروض الإستهلاكية، تحت ضغط البنك المركزي التونسي والمعايير الجديدة المفروضة على المعادلة بين الإقراض والإيداع،
التأثيرات الجانبية
تؤكد هذه الأرقام تعطل أو توقف أبرز ممول للإستهلاك في تونس و هو القروض البنكية الإستهلاكية، مما كان له تأثير مباشر على تطور مستوى الإستهلاك الخاص في تونس. وللإشارة فإن الإستهلاك الخاص كان خلال السنوات الأخيرة المحرك الأساسي لنمو الإقتصاد الوطني، والأكيد أن توقف مستوى نمو الناتج الداخلي الخام في تونس في حدود 1 بالمائة خلال سنة 2019، يعود في جزء كبير منه إلى تراجع تطور الإستهلاك و مساهمته في النمو.
كما أدى هذا التضييق إلى تنامي شعور الأسر التونسية بتأزم الوضع الإقتصادي وعدم ثقتهم في المستقبل، وهو ما تترجمه نسبة المتشائمين من عمليات سبر الآراء المنجزة والتي تتجاوز في العديد منها الـ80 بالمائة.
كما تتمظهر خطورة هذه الوضعية من خلال تنامي الإحتقان الإجتماعي و تطور مستويات الجريمة، و ارتفاع مظاهر الفقر المدقع في تونس ليشمل فئات كانت تنتمي في زمن قريب إلى الطبقة الوسطى. و تنبئ هذه الوضعية بانفجار إجتماعي كبير، يمكن أن يعصف بما تم تحقيقه في مجال الحرية والديمقراطية وتركيز المؤسسات، خاصة في ظل هشاشة مؤسسات الدولة وضبابية المشهد السياسي. من جهة أخرى، أفرز تراجع مستوى القروض البنكية للأسر التونسية، ظهور مصادر تمويل موازية بمستويات فائدة مرتفعة جدا، و لا تخضع إلى ضوابط، وظهرت بذلك “مؤسسات إقراض” موازية، تستغل حاجة الناس وضعفهم، خاصة من الموظفين من أجل إقراضهم بنسب فائدة تصل في بعض الحالات الـ100 بالمائة.
ما يجب التأكيد عليه أن هذه الأرقام تسترعي الإهتمام والتحليل، وتدق عديد نواقيس الخطر، فالقطاع البنكي هو دعامة للإقتصاد الوطني و له كذلك دور إجتماعي هام لا بد أن يلعبه، و على ساكني البنك المركزي التونسي أن يعو ذلك، بعيدا عن الأرقام والعمليات الحسابية الجافة.