نعتمد في هذه القراءة على الوثيقة الصادرة عن رئاسة الحكومة بتاريخ 15 سبتمبر 2015 وبعد الاطلاع على صيغها السابقة الأولى بتاريخ 9 أوت 2015 والثانية لم تحمل تاريخ ولكنها سابقة للأخيرة. وهي وثيقة تمثل المرحلة الأولى لإدارة التحول الاقتصادي والاجتماعي للبلاد خلال الخماسية القادمة من خلال تحديد الرؤية الجديدة لتونس، يليها مخطط التنمية الذي سيرسم الأهداف المحددة وطنيا وقطاعيا وجهويا، ثم وفي مرحلة ثالثة الإنجاز الفعلي للمخطط وتنزيله على الأرض على امتداد 5 سنوات.
وتقترح الوثيقة، حسب ما ورد في صفحتها الثانية من صيغة 15 سبتمبر 2015: «[…] منوالا جديدا للتنمية يهدف إلى الارتقاء بتونس إلى مصاف البلدان الصاعدة ذات مستويات التنمية البشرية العالية. ويرتكز هذا المنوال على هيكلة متطورة للاقتصاد ويهدف إلى تحقيق نمو اقتصادي إدماجي مستدام يراعي قواعد الإنصاف والعدالة في توزيع الثروات، ويعتمد خطة مستحدثة في مجالات التنمية الجهوية والتنمية المستدامة والتشغيل، ويعمل على إرساء مقومات الحوكمة الرشيدة في كل المستويات بما من شأنه أن يحقق أسس السلم الاجتماعي، ويعزز نجاعة السياسات العمومية».
وتتألف الوثيقة من صفحة غلاف، تحمل شعار الجمهورية وعنوان الوثيقة وتاريخها، تليها صفحة تحمل خريطة التراب الوطني وفوقها العلم الوطني وكلمة «تونس 2020» وبجانبها شعار: «إرادة قوية وفاعلة لتحقيق العدالة والرخاء بتكريس الحوكمة الرشيدة»، تليها 3 صفحات محتوى الوثيقة التي يمتد متنها على 86 صفحة، منها 2 صفحات في شكل تمهيد، ويتألف من 3 أبواب: باب أول بعنوان «تشخيص الواقع التنموي» في حجم 22 صفحة موزع على 9 فصول مختلفة، وباب ثان بعنوان «المشروع المجتمعي ومنوال التنمية البديل» في حجم 16 صفحة يحتوي بدوره على 3 فصول تتفرع بدورها لعدد من النقاط، وباب ثالث بعنوان «محاور التنمية: الأهداف والسياسات والإصلاحات» بحجم 48 صفحة.
ورغم التطور الكبير على مستوى توزيع الأبواب من الصيغة الأولى إلى الصيغة الحالية، وهو مرتبط أساسا بمنهجية المقاربة، فلا يزال هناك انعدام في التوازن؛ 48 صفحة في مقابل 16 و22، واضحا بين مختلف الأبواب المكونة للوثيقة، إضافة إلى عدم تجانس بين هيكلة الأبواب، إذ لا نجد منطقا موحدا في تنضيدها. كما تجدر الإشارة إلى عدم وجود أي تنصيص على المؤسسات البحثية أو المختصة التي قامت بإنجاز الوثيقة وكذلك الشخصيات العلمية أو الإدارية التي ساهمت في تأثيثها، كما لا نجد إحالات بيبليوغرافية، على الدراسات والبحوث العلمية المختصة، استندت لها الوثيقة في مفاهيمها أو أرقامها أو تشخيصاتها المختلفة…
وتأتي الوثيقة ثرية بالعديد من المفاهيم الأساسية في تحديد مستقبل الديمقراطية الناشئة وارتقاء البلاد إلى صفوف البلدان المتقدمة بشكل فعلي، ونجد في هذا السياق: (1)- «العقد التنموي الشامل» والتي تريد الوثيقة أن ترتقي إليه، و(2)- «الاندماج الاقتصادي»، و(3)- «رأس مالية مبنية على الرعاية الاجتماعية من الدولة» وهو مفهوم استعمل في تشخيص المنوال التنموي الحالي، و(4)- «الاقتصاد الاجتماعي» و(5)- «الحوكمة الرشيدة» و(6)- «إدماج الجهات»، و(7)- «حلقات القيم»، و(8)- «اللامركزية»، و(9)- «المواطنة الفاعلة» و(10)- «الصناعات الثقافية»… ولكن مع الأسف لم يتم الاستفاضة في التعمق في تعريفها بالشكل الكافي.
1- حقائق أقرت بها الوثيقة لا بد من التوقف
تقر الوثيقة في باب التشخيص خاصة بعدد من الحقائق التي يجب التوقف عندها، منها ما ورد في صيغة 9 أوت ومنها ما ورد في صيغة 15 سبتمبر، ويمكن ذكر:
(أ)- أن التجارة الموازية تمثل نصف التجارة البينية الرسمية مع بلدين الجوار، ليبيا والجزائر، كما تمثل المحروقات المتأتية من التهريب عبر الحدود البرية قرابة 20% من الاستهلاك الوطني،
(ب)- القطاع الموازي يشغل 54% من اليد العاملة النشيطة ويوفر 38% من الناتج المحلي الإجمالي في تونس،
(ت)- ترتكز 77% من اليد العاملة في القطاعات ذات القيمة المنخفضة وخاصة: الفلاحة والنسيج والقطاع العمومي والبناء والأشغال العامة والتي تتميز بضعف الأجور، في مقابل 7.7% فقط من اليد العاملة المشتغلة يستقطبها قطاع الخدمات وخاصة الخدمات المالية والنقل وتكنولوجيا المعلومات والاتصال والتي تتميز بقيمة مضافة عالية ومستوى تأجير مرتفع،
(ث)- ترتكز 80% من المبادلات التجارية لتونس بالأساس على 4 أسواق من الاتحاد الأوروبي،
(ج)- الـ10% الأكثر ثراء في تونس، سنة 2010، يفوق إنفاقهم 8 مرات إنفاق الـ10% الأكثر فقرا،
(ح)- بلغت كلفة التدهور البيئي قرابة 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي،
(خ)- فيما يخص التعمير، استهلاك 3000 هكتار سنة 2013 مقابل 300 هكتار في ستينيات القرن العشرين،
(د)- وبالنسبة للماء، تصنف تونس من أكثر البلدان فقرا في الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، حيث تقدر الكميات المتاحة للفرد الواحد بـ470 متر مكعب مقابل 1000 متر مكعب كحد أدنى على المستوى العالمي.
وما يجدر الإشارة إليه أن الوثيقة أقرت في صيغة 9 أوت 2015 في صفحتها الـ17، في التشخيص، بتطور العناصر المكونة لمؤشر التنمية البشرية بين 2010 و2013، حيث ارتقى من 0.683 سنة 2010 إلى 0.721 سنة 2013، وهو رقم يكاد يقترب من مؤشرات التنمية البشرية المرتفعة، ويرتبط خاصة بمتوسط العمر المتوقع عند الولادة ومتوسط سنوات الدراسة ونصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي (بما يعادل القدرة الشرائية)، كما يربط بحرية التعبير والتنظم واحترام حقوق الإنسان…
2- أكثر من صدى لتوصيات البنك الدولي في التشخيص الممنهج للدولة:
نجد في أكثر من موضع من الوثيقة صدى واضح للتشخيص الممنهج للدولة الذي أصدره البنك الدولي في بداية سنة 2015، حيث نجد على سبيل المثال ما يلي: «[…]وتعزيز قدرة البلاد على تطوير السوق الداخلية والانصهار أكثر في الاقتصاد العالمي والاستفادة من الفرص التي توفرها العولمة. وعلى هذا الأساس تعد مواصلة السير على درب الانفتاح خيارا استراتيجيا لتونس[…]» [مشروع الوثيقة التوجيهية، 15 سبتمبر 2015، ص28]. وهو ما صدح به التقرير الممنهج الذي ينصح بوجوب: «أن يقع الشروع في إزالة الحواجز أمام المنافسة في السوق بداية من قطاعات الخدمات التي تعتبر العمود الفقري للاقتصاد» [الملخص التنفيذي للتشخيص الممنهج للدولة؛ تونس، 2015، ص4-5].
كما نجد في الوثيقة صدى ثان للتشخيص المذكور الذي يؤكد على:»[…]إصلاح نظام الضمان الاجتماعي، وإصلاح منظومة الدعم، ومنظومة المساعدات الاجتماعية[…]»، [التشخيص الممنهج للدولة؛ تونس، 2015، ص8]، وهو ما تتماهى معه الوثيقة التوجيهية، حين تقول: «وتتجلى هذه الإشكاليات الاجتماعية خاصة من خلال الضغوطات المسلطة على التوازنات العامة وعلى ميزانية الدولة المنجرة عن نفقات الدعم والتحويلات الاجتماعية التي تعاني من عدم توجيهها لمستحقيها من الفئات الاجتماعية محدودة الدخل وكذلك عن الوضعية المالية لصناديق الضمان الاجتماعي.»، [مشروع الوثيقة التوجيهية، 15 سبتمبر 2015، ص15]. وهي نماذج على العديد من المواضع التي تستجيب فيها الوثيقة لـ»توصيات التشخيص»…
3- حول المنوال الصناعي الحالي والمنشود:
فيما يستند الإنتاج الصناعي في كل الاقتصاديات على المشاركة في حلقات القيم التي تبدأ من التصميم والمواد الخام إلى الإنتاج والتسويق للمستهلك، لم تتمكن الصناعة الوطنية من التموقع ضمن الحلقات ذات القيمة المضافة العالية والإنتاجية المرتفعة في هذه الحلقات مما أدى إلى عدم تطور أنشطة واختصاصات مدمجة بشكل فعال حيث أن تخصص القطاعات المصدرة لم يبن على قدرة تنافسية عالية وإنما اقتصر قطاع التصدير على المناولة لقطاعات صناعية أوروبية، [مشروع الوثيقة التوجيهية، 9 أوت 2015، ص16-17].
كما وردت، في نفس السياق، في صيغة 15 سبتمبر 2015 فقرة مفصلية وهامة مع الأسف استبدلت فيها بعض التفاصيل التي وردت في صيغة 9 أوت 2015، وهي كالآتي: «وبما أن التعويل على الموارد البشرية لدفع نسق العمل والنشاط هو مفتاح النجاح للارتقاء إلى مستويات أرفع من التنمية، ستتكثف الجهود في المرحلة القادمة في اتجاه حث الشباب ومختلف الفئات على الاشتغال وإعطاء العمل المهني والحرفي القيمة الحضارية والمعنوية اللازمة ومجابهة عقلية استنقاصه.»، وقد أخذت كلمة «العمل المهني» مكان كلمة «العمل اليدوي»، كما حذفت في آخر الفقرة جملة «[…] الاختصاصات المهنية والحرفية التي تدنت نسب الإقبال عليها».
ويبدو هذا الرأي منسجما بشكل كبير مع الواقع، فاختصاص التصميم بالجامعة التونسية، وخاصة تصميم المنتوج المرتبط أساسا بالصناعة، لا نلمس له أي صدى في البيئة الاقتصادية وهو نتيجة لذلك يعرف تقهقرا حادا في قدرته على استقطاب موجهين من الباكالوريا، فهذه السنة تؤكد المعطيات أن إحدى المؤسسات لم تسجل أي موجه. كما تؤكد دراسة جامعية حديثة، تطرقت لدور منطقة صناعية في التنمية المحلية، على أنها لا تمنح فرص تدرب حقيقية واكتساب مهارات من شأنها ان تطور العامل والصناعي وبيئتهما.
وترتئي الوثيقة الانتقال من منوال يعتمد على تراكم عوامل الإنتاج إلى نمط جديد يرتكز أساسا على تراكم المعارف والبحث عن مكامن النمو في كل العناصر الأساسية التي تتطلبها العملية الإنتاجية… ولكن في موضع لاحق عندما أرادت التأكيد على القطاعات الواعدة، لم ترتق الوثيقة لمستوى ما طرحته، حيث بقيت في مستوى قطاعات: أجهزة الاتصال وأنظمة الدفع الإلكتروني ومعدات السيارات والطائرات والبيوتكنولوجيا والأنسجة الذكية… [مشروع الوثيقة التوجيهية، 15 سبتمبر 2015، ص43].
4- المنوال الثقافي؛ سقوط في القوالب المحنطة سرعان ما تداركته الوثيقة:
بينما سقطت صيغة 9 أوت 2015 في الصفحة 18، فيما يخص القطاع الثقافي، في قالب محنط مفاده «ضعف تغطية بالبلاد بدور الثقافة والمسارح وقاعات السينما»، فإن الإشكالية الحقيقية تتمثل هنا خاصة في محتوى هذه المؤسسات التي دخلت في طور من التنميط جعلها خارج الدورة الحياتية للمجتمع، وهو ما تداركته الدراسة في الصيغ اللاحقة بالتأكيد على دور الثقافة في «[…]تعزيز التماسك والاندماج الاجتماعي، وكركيزة لبناء تونس الجديدة بالاستناد إلى قيم الديمقراطية والمدنية والفكر المستنير والابتكار المبدع وكعامل إشعاع ورافد من روافد التنمية.» [مشروع الوثيقة التوجيهية، 15 سبتمبر 2015، ص63].
5- تهيئة ترابية لم تتجاوز الشعارات الموجودة والمسلمات التي تحتاج للمراجعة:
فيما يخص التهيئة الترابية، لم تتعدى الوثيقة مستوى الشعارات العامة التي تنص عليها منذ سنوات مجلة التهيئة الترابية والتعمير. فمن زاوية التهيئة العمرانية نصت الوثيقة، في صيغة 15 سبتمبر 2015 في الصفحة 78، على دعم الأقطاب العمرانية من خلال «سياسة جديدة للمدينة» ترتكز على 6 نقاط: (1)- اعتماد حوكمة تشاركية في تسيير الشأن المحلي، (2)- دعم البنية الأساسية للمدن لجعلها قادرة على الاستجابة لحاجيات مختلف الأنشطة العمرانية، (3)- مقاومة البناء العشوائي وتحسين ظروف العيش وتأهيل وإدماج الأحياء الشعبية والتحكم في التوسع العمراني المشط على حساب الأراضي الفلاحية، (4)- توفير المدخرات العقارية الضرورية للتوسع العمراني ومراجعة أمثلة التهيئة العمرانية بالسرعة اللازمة، (5)- حماية المدن من الفيضانات، (6)- تحسين جمالية المدن لدعم جاذبيتها».
هذا وقد وردت في صيغة 9 أوت معلومة مفادها أن 68% من السكان يقطنون المدن، وحسب القانون التونسي، كل تجمع سكني يبلغ 5000 ساكن يعتبر مدينة، وهو ما يلحق بهذه المرتبة الكثير من القرى التي لا علاقة للحياة بها بالحياة الحضرية الحقيقية، حيث تغيب المرافق والتجهيزات والخدمات وتهيمن أنساق وأجواء ريفية بامتياز… أما الملاحظة الثانية فتهم مفهوم البناء العشوائي الذي يقصد به في الأدبيات الحضرية التونسية كل بناء وقع إنجازه دون الحصول على رخصة، بينما واقع حال مدننا أن أغلب السكان الذين يتحصلون على رخص بناء ينجزون بناءات لا علاقة لها بالأمثلة المدرجة بالرخصة.
لقد بلغت المساحات المبنية على غير الصيغ القانونية، رغم حصول أصحابها على رخص بناء، أكثر من 40000 متر مربع، وذلك حسب تحقيق أنجز في سبتمبر 2010، في مدينة عدد سكانها لم يتجاوز 9000 ساكن، ولو عممنا هذا الرقم على العدد الجملي للسكان بالمدن، أي حوالي 7480000 ساكن، سوف نجد حوالي 3300 هكتار مبني على غير الصيغ القانونية على صعيد وطني، وهو رقم أقل بكثير من الواقع. ويعود ذلك أساسا إلى عدم تلائم تراتيب التعمير المعمول بها، وهي جزء من تركة التعمير الفرنسي، مع حاجيات السكان ونمط حياتهم وتفكيرهم وتمثلاتهم، مما حول أدوات تهيئتنا العمرانية إلى أدوات لما يمكن أن نسميه «شرعنة الفوضى».
إذا استطعنا تلخيص فحوى هذا العمل الهام، والذي يحتاج لمزيد التعمق والبحث والتطوير التشاركي، يمكننا القول بأننا نريد استبدال منوال تنموي يقوم على توريد المناولة في كل القطاعات والأبعاد، أثبت فشله في تحقيق الكرامة الوطنية وزاد في تثبيت التبعية والوهن المعرفي والتكنولوجي والتفاوت بين الجهات والقطاعات… بمنوال إدماجي ذو محتوى معرفي عالي يتجه نحو الابتكار والتجديد بما من شأنه أن يحفظ كرامة الإنسان التونسي ويمنحه التألق والازدهار ويكرس استقلال وسيادة القرار الوطني ويقلص الفوارق بين الجهات…
كما تمثل الفقرة الواردة بالصفحة 27 من صيغة 15 سبتمبر 2015، العمود الفقري الحقيقي وكلمة السر فيما يجب الانطلاق منه لتحقيق هذه التنمية الشاملة والتطور والرقي…»ولأن الكرامة تمثل جوهر استحقاقات الفرد والمركز الذي تلتقي عنده بقية الحقوق، سيتواصل العمل من أجل حفظ كرامة الفرد بما يعنيه ذلك من صون وإعمال لحقوق الإنسان في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية مع العمل على تدعيم مضلة حماية هذه الحقوق والتوقي من الممارسات المخلة بكرامة الإنسان لا سيما من خلال تفعيل دور الهيئة المعنية بمراقبة احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وإرساء هيئة الوقاية من التعذيب.»،
ولو انطلقنا من هذه الأسس الأولية، وحتى نكون أكثر ثقة وتطلع للمستقبل وقدرة على تجاوز القوالب المحنطة، يمكننا أن نقدم في سياق مخطط التنمية 2016-2020 وما سيليه من أعوام المقترحات التالية: (1)- إنجاز مفاعل نووي تونسي للاستخدامات السلمية وخاصة في مجال إنتاج الطاقة، (2)- صناعة طائرة تونسية 100%، (3)- صناعة دبابة تونسية 100%، (3)- سيارة تونسية 100%… وهي أهداف تنسجم إلى حد كبير مع مضامين الوثيقة التوجيهية.