الذين عاشوا فترة الخمسينات وما تلاها من أحداث متسارعة يدركون فداحة الأوهام التي صبغت تلك السنوات من تردي الأحوال الاجتماعية في كافة بلدان الرقعة العربية إلى قيام الثورة المصرية وبداية صحوة قومية في محاولة لدفع العرب إلى لعب دور ما على الساحة الدولية وترتكز هذه الصحوة على القضية الفلسطينية والعمل على إزالة ما يسمى باسرائيل وعودة الفلسطينين إلى أرض أجدادهم وفي وقت كان في الصهاينة يتمركزون دوليا ويبنون دولة على أسس متينة اتجه العرب إلى إثارة قضايا داخلية لإشعال ثورة في البلدان التي صنفت بالرجعية مثل السعودية واليمن والعراق والأردن ومحاولة تقوية الجانب التقدمي في سوريا ولبنان وفي انتظار ما سيقع في شمال افريقيا واعتمدت مصر على إعلام متطرف يلهب حماس العرب في ذلك العهد وفي أي مكان وساهمت معركة السويس في تثبيت دور مصر في رفع راية الحرية والانعتاق ومقاومة الاستعمار كل ذلك حسب الادعاء لتحرير فلسطين وجاءت الثورة العراقية في جويلية 1958 لتزيد في أوهام القيادة المصرية وتشعرهم بالاستيلاء على العرب والقيام بدور الحكم والمرشد واشتدت المعارك الكلامية مع السعودية وكل الأحزاب الرافضة للهيمنة المصرية ومن بينها تونس حين اصطفت مصر مع جماعة »خطوة إلى الوراء الرافضة لاتفقيات الاستقلال الداخلي وحتى بعد الاستقلال التام واصلت مصر نقد السياسة في تونس وتعكرت العلاقات أكثر من مرة لتصل إلى قطع العلاقات الدبلوماسية وكذلك كانت ألأجواء مع باقي الدول العربية بين المدّ والجزر وتسارعت الأحداث في العراق بين التقارب والفراق أي بين عبدالكريم قاسم والأخوان عارق ثم كانت الوحدة بين مصر وسوريا ثم الانفصال وهكذا . وجاءت ثورة السلال في اليمن ودخول مصر بثقلها لحماية السلال من قوة القبائل وأرسلت جيشها إلى هناك وتدهورت العلاقات مع السعودية واشتدت تهجمات الإعلام المصري بعبارات متدنية وبعد حرب بنزرت تحسنت العلاقات بين تونس ومصر على الأقل في الظاهر خاصة وأن عبد الناصر حضر عيد الجلاء ببنزرت وفي فيفري 1965 قام الزعيم الحبيب بورقيبة بجولة في الشرق الأوسط بدأها بزيارة مصر كانت ناجحة توجت بمنح الزعيم الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة وقيل أن الحديث تطرق بين الرئيسين إلى جوهر القضية الفلسطينية ووجوب مصارحة العرب بحقيقة الوضع ويروى أن عيد الناصر قال أنه انتحار لو صارح الناس بالحقيقة ويذكر أن الزعيم بورقيبة أكد أنه سيقوم بأول توضيح حول القضية والمطالبة بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة وهذا لا مفر منه ويظهر أن عبد الناصر وافق على الفكرة وفي … شرع الزعيم في إثارة لب القضية وبدأت ردود الفعل محتشمة لكنها انفجرت في بيروت في ندوة صحفية ذلك أن العرب يرون في فكرة الزعيم اعترافا باسرائيل وانطلقت حملة استنكار واسعة شملت كل البلدان العربية زادت حدتها مسألة قطع العلاقات مع ألمانيا التي اعترفت باسرائيل ورفض الزعيم أن تأمر مصر العرب بقطع تلك العلاقات بدون تشاور ولا تفاوض وبسرعة تدخلت أجهزة الإعلام المصرية بثقلها ضد تونس وكانت حملة شعواء ارتكزت على استنكار مطالبة الزعيم الحبيب بورقيبة بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين وقطعت العلاقات الديبلوماسية مرة أخرى أما العلاقات العربية بقيت متوترة بسبب حرب اليمن ثم مع ضرب البعث في سوريا واشتدت الخلافات بين البلدين وتدهورت العلاقات وتبادل الطرفان التهم الخطيرة حول القضية الفلسطينية وتأجج الموقف وسقط عبد الناصر في فخ تحديات حزب البعث وطالب برفع الحراسة الأممية عل ى الحدود المصرية الاسرائيلية واعتبرت اسرائيل هذا الإجراء إعلان حرب… وبالفعل تحولت المنطقة إلى فوهة بركان وخيمت أجواء الحرب على الشرق الأوسط وهنا يظهر أن البلدان المعنية أي مصر والأردن وسوريا أخذت المسألة باستخفاف واقتصر الحماس على الإذاعات وعلى الصحف والكل يتبادل التهم الخطيرة لأن ما وقع فيما بعد يؤكد ما لوحظ من قبل لأن اسرائيل عندما شنت هجومها المفاجئ لم تجد مقاومة ما إذ قيل مثلا أن كبار قواد الجيش حضروا حفلا موسيقيا إلى الفجر ولم تكن الطائرات محصنة وكانت الأجواء مفتوحة ولا شيء يدل على وجود حرب وفي نفس تجندت الإذاعة بفروعها وهناك أعنت حقا حالة الطوارئ إذ قام عبد الحليم حافظ والملحن كما الطويل والمؤلف صلاح جاهين لإعداد فواصل حماسية أخذت تبثها تباعات مثل (احلق بسماها) وخاصة (أرميهم في البحر) واقتصرت نشرات الأخبار المتتالية على بث بيانات اتضح فيما بعد أنها كاذبة… وأفاق الجميع على خطاب عبد الناصر الذي أعلن فيه التنحي … وحول لعبة سياسية صبيانية لم يتفطن المسؤولون إلى خطورتها على الأوطان فرط العرب في الضفة الغربية والقدس بأكملها والجولان السورية التي قيل أنها منطقة يستحيل احتلالها وإلى الآن بقيت علامة غامضة في العلم العسكري كيف احتلت وخسر العرب كل شيء وإلى اليوم هناك من يحلم بعرب كل شيء وإلى اليوم هناك من يحلم بإزالة اسرائيل وتوالت الهزائم النكراء والشعوب تلهث وراء الأوهام.