أسفر مجلس القطب الشمالي الذي انعقد بتاريخ 13 ماي 2021 في أيسلندا، عن إعلان مشترك حول الحاجة إلى الحفاظ على السلام، و مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري. بينما تستمر الخصومات في النمو في هذه المنطقة، التي أصبحت مركزًا لجميع الرغبات، حيث تسعى كبرى دول العالم لدخول المنطقة القطبية الشمالية قصد استغلال أراضيها و الإستحواذ عليها.
لم تتم مناقشة التوترات الجيوسياسية أو عسكرة القطب الشمالي في ريكيافيك. بل اجتمعت روسيا والولايات المتحدة وكندا والدنمارك والسويد وفنلندا والنرويج وأيسلندا رسميًا يوم الخميس 20 ماي لمناقشة التنمية المستدامة والتعاون السلمي وحماية السكان الأصليين المهددين بالاحتباس الحراري. و صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين ضمن فعاليات هذا الإجتماع قائلا « نحن ملتزمون بتعزيز منطقة القطب الشمالي المسالمة حيث يفوز التعاون في المناخ والبيئة والعلوم والأمن ».
من الناحية النظرية لا يهدف هذا المنتدى الحكومي الدولي، الذي جمع منذ عام 1996 البلدان المشاطئة في المنطقة، إلى التعامل مع مسائل الأمن العسكري. ومع ذلك يبدو أن هذه هي الخلفية الحقيقية لهذه القمة التي تعقد كل عامين. و صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، بأن القطب الشمالي منطقة نفوذ شرعية لموسكو، وندد بـالهجوم الغربي في المنطقة ، بينما أشار أنتوني بلينكين الزائر للدنمارك، إلى زيادة بعض الأنشطة العسكرية في منطقة القطب الشمالي.
منذ سنة 2010 قامت روسيا ببناء أو تحديث 14 قاعدة عسكرية تعود إلى الحقبة السوفيتية، و زيادة التدريبات العسكرية. و في 24 مارس 2017 قامت موسكو، بمحاكاة هجوم جوي على رادار نرويجي. و في العام الماضي قامت القوات الروسية بإنجاز فذ بالمظلات من ارتفاع 10000 متر فوق مستوى سطح البحر إلى الدائرة القطبية الشمالية، مما يدل على قدرتها العالية على الرمي في الظروف القاسية.
في المقابل يُظهر الناتو عضلاته من خلال التدريبات العسكرية المتكررة. ففي عام 2018 جمعت تمارين « Trident Juncture » في النرويج قوات من 29 دولة عضوًا، على نطاق لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب الباردة، و قد أثارت هذه المناورة حنق الكرملين.
و يقول « ميكا ميريد » أستاذ الجغرافيا السياسية للقطبين: » الولايات المتحدة قادرة على نشر أصول عسكرية في القطب الشمالي في أقل من 48 ساعة « .
و يُنظر إلى القطب الشمالي منذ فترة طويلة على أنه منطقة معادية، لا يمكن الوصول إليها. و لكنه أصبح مرة أخرى مصدر قلق للقوى العظمى في عام 2007. ليعود بذلك القطب الشمالي إلى مركز الأحداث. و في 9 جويلية 2007 أعلن رئيس الوزراء الكندي « ستيفن هاربر » عن بناء ميناء للمياه العميقة في الممر الشمالي الغربي، وألقى خطابًا حول « الدفاع الكندي والسيادة على القطب الشمالي ».
و بعد شهر ردّت موسكو الفعل إذ قام « آرثر تشيلينجاروف » المستكشف ونائب رئيس البرلمان الروسي، بوضع العلم الروسي المصنوع من التيتانيوم في القطب الشمالي، و تمثل هذه اللفتة الرمزية بداية عودة روسيا إلى هويتها القطبية التي أُهمِلت لعدة عقود.
و بالإضافة إلى هذه الأحداث الجيوسياسية هناك ملاحظات علمية غير مسبوقة، حيث كشف المعهد القطبي النرويجي أنه و لأول مرة منذ بدء اكتشافاته في عام 1972، أصبح الممر الشمالي الغربي « مفتوحًا تمامًا للملاحة ».
هذا و تُدرك القوى العظمى التحولات القادمة، فوفقًا لخبراء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، و مع ارتفاع درجات الحرارة.. يمكن أن يختفي الجليد البحري تمامًا في صائفة 2030، مما سيفتح طرقًا بحرية جديدة، ولا سيما الممر الشمالي الشرقي، و يشكل هذا الأخير أقصر طريق بحري من أوروبا إلى آسيا، أقل بـ 12 يومًا من المسار المعتاد الذي يمر عبر قناة السويس.
و عليه يبدو الجليد الذائب بمثابة نعمة اقتصادية للبلدان المعنية، لأن القطب الشمالي مليء بالكنوز:
النيكل والرصاص والزنك واليورانيوم والبلاتين والأتربة النادرة …
و وفقًا لدراسة المسح الجيولوجي الأمريكية لعام 2008، تحتوي منطقة القطب الشمالي على أكثر من 22٪ من احتياطيات العالم من الهيدروكربونات غير المكتشفة، وتحتوي أيضا على أكثر من 10٪ من احتياطيات النفط في العالم وما يقارب 30٪ من احتياطيات الغاز الطبيعي. و توجد الغالبية العظمى من الهيدروكربونات في المنطقة الاقتصادية الروسية الخالصة.
يراهن فلاديمير بوتين بشدة على هذه المنطقة الحيوية، و يسعى لمضاعفة حجم الشحن الذي يمر عبر القطب الشمالي بمقدار أربعة أضعاف بحلول عام 2025 عن طريق مصنع سابيتا العملاق لإسالة الغاز في شبه جزيرة يامال، المصمم بالتعاون مع الصين ومجموعة توتال الفرنسية.
تعتبر هذه الطرق البحرية الجديدة قضية جيوستراتيجية، و كان العالم السياسي نيكولاس تينزر صرح « قد تميل روسيا التي لديها أكبر حدود مع القطب الشمالي إلى إغلاق هذه الطرق في حالة التوتر والتصعيد » مع الدول الغربية.
لا يوجد نزاع حدودي في القطب الشمالي اليوم، هناك مجرد صراع رمزي وصراع على الهوية، لكن جميع دول القطب الشمالي لها نفس المصلحة و هي إعادة تأكيد سيطرتها على أراضيها لمنع الدول الأجنبية، من الاستقرار هناك من خلال الأصول الاستراتيجية أو العسكرية.
الصين نفسها ليست بمنأى إذ لم تخف بكين جاذبيتها لهذه المنطقة الشاسعة من خلال إثبات الصين لنفسها تدريجياً كشريك عالمي رئيسي ولكن أيضًا كشريك اقتصادي. كما أنها أصبحت في سنة 2013 ضمن مجلس القطب الشمالي بصفة مراقب. و في جانفي 2018 قدمت الصين سياستها الخاصة بالقطب الشمالي لأول مرة، وعرفت نفسها الآن على أنها « دولة قريبة من القطب الشمالي ». و في غضون سنوات قليلة أصبحت بكين المستثمر الأول في المنطقة وشاركت في العشرات من مشاريع التعدين والغاز والنفط.
كلما أصبح القطب الشمالي أكثر حرية، زادت أرباحه من القيام بالأنشطة الإقتصادية. وبالتالي ستصبح نقطة التقاء قوى نصف الكرة الشمالي « الولايات المتحدة وروسيا والصين » و عليه فالقطب الشمالي هو التحدي الأكبر و الأهم في القرن المقبل.
بلال بوعلي