محمد بشير الجويني: خبير السياسات العامة والاستشراف
في عاصمة الموحدين مرّاكش في 17 فيفري 1989, وقّع رؤساء الدول الخمس(تونس,المغرب,الجزائر,ليبيا,و موريتانيا) ميثاق تأسيس اتحاد المغرب العربي الذي انطلق من فكرة تحقيق وحدة الشعوب وأمانيها و تطلعاتها بتضافر الجهود و إقامة تعاون فعال بين الدول الأعضاء والتكامل في مختلف المجالات و إلى توفير تنسيق كامل في السياسات و المواقف و الاختيارات , وبذلك وّقعت الإتفاقيات و البروتوكالات و بعثت المؤسسات فكان لهذا الإنجاز الصّدى الطّيّب لدى الشعوب المغاربيّة الشقيقة و الصديقة التي لديها عديد نقاط الإلتقاء من لغة إلى دين إلى تاريخ و جغرافيا ثم إلى عادات و تقاليد.
ولكن و للأسف هذه الفرحة لم تدم طويلا فبعد سنوات قليلة من الـتأسيس و البناء و الحلم ,بدا و كأن هذا المولود ولد عقيما مشوّها, فلا وحدة إلا على الورق ولا مبادلات ولا تسهيلات و لا تنقّلات ولا حتّى نوايا تطوير ونموّ, بل ماحصل هو العكس و خير دليل على ذلك عودة قضية الصحراء الغربية لتطفوا على السطح من جديد فما فتأت تتأزم العلاقات بين الشقيقين المغرب و الجزائر ليصبح بينهما نوع من التربص المتبادل بالإضافة إلى إقفال الحدود البرية بينهما منذ العام 1994 و يعود آخر لقاء لقائديها إلى سنة 2005.
فلنتوقف قليلا و لنلقي نظرة بانورامية على العالم, لما حدث البارحة وما يحدث اليوم و ما سيحدث غدا فسنجد أن العالم العربي و كأنه خارج المنظومة أسير لثلاثية الدين و السياسة و الجنس, والتكتّلات الإقليمية الغربية من حوله تتوحد و تنمو و تتكاتف وتقوى لمواجهة الرهانات فنستمع اليوم ونرى كذلك تقسيما آخر للعالم « جيوسياسي » و »جيواستراتيجي » و إعادة « كتابة للتاريخ » كما يحلوا للبعض تسميته .
و مع انبثاق ما يعرف بموجات الثورات العربية التي بدأت من تونس, زادت نسبة التشتت و التفرقة بالعالم العربي عامة و المغرب العربي خاصة عوض أن تكون هذه التغيرات دافعا نحو مزيد التكاتف أصبحت سببا في تنامي ظواهر مثل التطرف بأنواعه و التي وجدت لها الحاضنة مع تفشي النزاعات الداخلية سياسية كانت أو عقائدية مثلما يحدث اليوم في القطر الليبي وبالتالي الوصول إلى درجة التدخل الأجنبي من جديد(عبر حلف النيتو) ليس لفض النزاع كما يخيل للبعض و هذا في الظاهر أما خلاف ذلك وباطنيا هو « سييكس بيكو » في حلّة جديدة فلم ولن ينفع ماحدث مؤخرا لا اجتماع باريس و لا مؤتمر باليرمو فالحل لن يكون من الخارج بل يكمن في الداخل وما كانت دعوة العاهل المغربي مؤخرا للدخول في حوار مباشر و صريح مع الجزائر لتجاوز الخلافات وتحسين العلاقات بين البلدين لإنشاء سياسة مشتركة للحوار و التشاور و تجاوز الخلاف حول الصحراء الغربية إلا خطوة طيبة لغد أفضل وكذلك كان الردّ الجزائري بعقد اجتماع تحت غطاء اتحاد المغرب العربي .
في ظل التغيرات و التحولات العالمية المتسارعة لا يمكن الحديث عن سيناريو ثالث لهذا الكيان , هما فقط سيناريوهين اثنين يمكن التنبؤ بهما ,و المقصود هنا بالسيناريو الثالث هو الوقوف على الربوة والاكتفاء بمشاهدة ما يحدث و الرضي عن الموجود دون التحرّك و التأثر ولا التأثير مثلما هو الحال اليوم رغم الهزّات الداخلية التي تشهدها بلدان الإتحاد .
أما السيناريو الأوّل هو سيناريو التغيير وهو تغيير جذري نحو تفعيل دور هذه الكلى المعطّلة وضخّها بدماء جديدة و لا يكون ذلك الآ بحكّام جدد تسري في عروقهم الروح الثورية الثائرة عن الموجود و الحاملة لجينات « القضية » في علاقة » بالوطنية » و المتمرّدة عن الموروث الثقافي السّائد الذي يحتكر الحكمة و الزعامة في كبار السن باعتبارهم هم اللبّ و الباقي قشور, و من ثمة و قبل كلّ شيء يجب توحيد العقليات في شكل عقد اجتماعي بين الدول الأطراف للتخلي عن المصالح الضيقة و الخاصة,و التنازل من كلى الدول لفائدة المصلحة العامة وإدارة هذه المرحلة عبر مسار الحوكمة الرّشيدة الجماعية بالنقاش المباشر, ومن هذا المنطلق يمكن المرور إلى المرحلة الثانية و هي مرحلة إعادة البناء عبر تكوين رؤية استشرافية جماعية تقوم على مراحل, ابتداء من عملية التحليل و التّشخيص مرورا عبر وضع الرهانات طويلة المدى التي تحملنا للمرور إلى الرؤية المرجوّة وذلك عبر الآستراتيجيا والتي من خلالها يمكن تكوين هيكل متكامل و متجانس قادر أن يحقق طموحات الشعوب بدرجة أولى وأن يكون صمام أمان سياسي و اقتصادي قادر على الوقوف كصد منيع أمام التغيرات الخارجية و الأزمات الداخلية .
المضي قدما في هذا المسار ليس خيارا بل هو ضرورة ملحة وواجب, في ضل ما يشهده العالم من تغيرات مستمرة فمن لم يتغير سوف يغيّر و بالتالي فإما الحياة وإما الاندثار و النسيان في أروقة التاريخ المظلم ,وعليه فهلمّوا لنبني مستقبل أفضل ليمجّد التاريخ نضالاتنا ويكون لوجودنا معنى خدمتا للأجيال الحاضرة و القادمة ولنجعل لنا بصمة بين الأمم عوض الاكتفاء و الوقوف على ما ينتجه الآخر و الرّضى بالتصنيفات المتخلّفة كعالم متخلّف و هو مايحملنا إلى الحديث عن السيناريو الثاني ألا وهو العبودية ثمنا للحرية « أو ما يطلق على تسميتها بالديمقراطية « ,فمن يقول أن هذه الدول( دول المغرب العربي ) هي مستقلة فلا يمكن أن يكون إلا جاهلا لآن استراتيجيات ا للاحتلال خرجت عن المنطق التقليدي بالاحتلال الترابي نحو الاحتلال الفكري و بناء عليه الدول التي لا تنتج و تستهلك ما ينتجه الآخر هي دول محتلّة فكريا, فالاستقلال يعني فقط الوقوف الندّ للندّ بالتشارك و التكامل في الإنتاج على جميع المستويات و في مختلف المجالات و هو للأسف ليس حال هذه الدول مع دول أخرى رغم ما تمتلكه من ثروات طبيعية و بشرية تمكّنها من « غزو العالم ». فبدعوى نشر الديمقراطية يدخل الغرب بهذا القناع وهو تمكين شعوب هذه الدول من افتكاك الحريّة من تسلّط حكّامها و بالتالي عليها دفع الضريبة بالعبودية والارتهان و التبعية الدائمة للغرب و التي تأخذ عديد الطرق منها استقطاب الأدمغة (وهو ما تشهده تونس مثلا من خلال معضلة هجرة الأدمغة), إفراغ هذه الدول من شبابها (و مشكلة الهجرة السرية والتي في الظاهر نتيجة الفقر و التهميش أما من و راء ذلك هي مخططات إستراتيجية),كما تأخذ شكل اتفاقيات تعاون و شراكة لنهب الموارد الطبيعية مثل النقاش و الجدال الحاصل اليوم في تونس حول اتفاقية التبادل الحر الشامل و المعمق في قطاعي الفلاحة و الخدمات بالإضافة إلى زرع الفتن الداخلية و افتعالها ليدخل الغرب من باب المنقذ و المحرّر , ونتيجتا لذلك يصبح هذا الآتحاد كالقصور المشيّدة على الرمال تذروه الرياح و تمحيه أمواج البحار كمن كان و لم يعد .
مع محدودية التواصل وانعدامه أحيانا بين دول المغرب العربي,تزداد الأزمات و التوترات و البعد أكثر فأكثر عن المبادئ الأساسية للوحدة في صلب هذا الكيان و بالتالي انعدام الرؤى الإستشرافية يشدّنا إلى الأسر المتواصل للماضي و الذي يعتبر في حدّ ذاته تطرّفا .لذلك لابد من تكاتف الجهود بين الدول الأعضاء للمضي قدما نحو الوحدة الحقيقية في إطار رؤية مستقبلية جماعية تعيد لهذا الكيان بريقه عبر ما يعرف بالاستشراف الإستراتيجي ولننظر إلى التجارب المقارنة الأخرى و لنتعلم منها, ولنعتبر من تاريخنا الزاخر المليء بالفتوحات القائمة على أساس الوحدة, ولننظر إلى الأمام ولنحلم بغد أفضل يقوم على الدّيمومة.